الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي خلق الخلق، وأبدع الكائات، الحمد لله شرع الدين وأحكم التشريعات، الحمد لله حثَّ المُؤمنين على المحبة والوئام، وندبهم إلى التزاور وصِلة الأرحام، وحذَّرهم من التَّدابر، والقطيعة، والخِصام، وأشهد ألا له إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أخشى الناس لربه وأتقى، دل على سبيل الهدى، وحذر من طريق الردى، صلوات ربِّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
صلة الرحم تُعَدّ صلة الرحم من أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله -عزّ وجلّ-، وهي تُعدّ من الأمور الواجبة على كلّ مسلم، كما أنّها تحقّ له؛ وذلك بأن يصل رحمه ويصلوه، وقد ربط الله -تعالى- بين صلة الرحم، والبركة في الوقت، والرزق، وجعلها سبباً لهما. فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)،[١] فيجلس المسلم مع أقاربه، ويتسامرون، ويتناقشون في المواضيع المختلفة، والمُتنوّعة، ممّا يؤدّي إلى صفاء صدر كلٍّ منهم تجاه الآخر، وزيادة الألفة والمَحبّة فيما بينهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأرحام من أحقّ الناس وأولاهم بالإحسان، والرعاية، قال الله -تعالى-: (وَأُولُو الأَرحامِ بَعضُهُم أَولى بِبَعضٍ في كِتابِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ).[٢][٣] وقد كانت صلة الرحم من الأخلاق المعروفة قبل بعثة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وعُرِف بها أيضاً، كما يتّضح ذلك من قول أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- له حين نزل عليه الوحي أوّل مرّةٍ: (كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ)،[٤] وكان رسول الله يمدح أرحامه، ويدعو لهم، ويُوصي بعضهم ببعضٍ، ويفخر بهم، ويقدّم لهم المساعدة المادّية، والمعنويّة. وممّا كان أنّه دعا لعبدالله بن عباس بأن يُفقِّهه الله في الدين، ويُعلّمه التأويل، ومن أجلّ وأعظم المواقف التي تدلّ على حرص الرسول على رَحِمِه ما حصل عند موت عمّه أبي طالب؛ فقد جاءه رسول الله، وكان عنده أبو جهل، وعبدالله بن المغيرة، فطلب منه الرسول أن ينطق الشهادة فأبى، ولمّا مات أراد النبيّ أن يستغفر لعمّه. روى الإمام البخاريّ قول الرسول في ذلك: (أمَا واللهِ لأستَغفِرَنَّ لكَ ما لم أُنْهَ عنكَ)،[٥] فأنزل الله قوله ناهياً عن ذلك: (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولي قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحابُ الجَحيمِ).[٦][٧] تعريف صلة الرحم صلة الرحم لغةً الصلة في اللغة ترجع إلى المصدر اللغوي (وَصَلَ)، والجمع منها صِلات، وتُقصَد بها عدّة مَعانٍ، منها: الشيء الذي يُعطى، والجائزة، والبِرّ والإحسان، والعلاقة التي تربط بين اثنين، أو أكثر، وتجمع بينهم.[٨] أمّا الرحم في اللغة، فهو: موضع استقرار الجنين في بطن الأم، ويُقصَد بالرحم أيضاً: القرابة، وأسبابها، وإن قِيل: ذو رحم؛ أي ذو قرابة.[٩] صلة الرحم اصطلاحاً صلة الرحم في الاصطلاح الشرعيّ تُطلق على من تجمع بينهم القرابة، ويُحرَّم النكاح فيما بينهم، وبناءً على ما سبق فإنّ أبناء الأعمام، وأبناء الأخوال، لا يدخلون في مُسمّى الأرحام، وقِيل إنّ الرحم لَفظٌ يُطلَق على مَن بينهما ميراثٌ، وقِيل بل على كلّ مَن تجمع بينهم قرابة، سواء أكان أحدهما يَرِث الآخر، أم لا يَرِثه. وتدلّ صلة الرحم أيضاً على الإحسان إلى الأقربين، سواءً كانت هذه القرابة بالنسب، أو المُصاهرة، والعطف عليهم، وتفقُّد أحوالهم، سواءً قابلوا ذلك بالإحسان، أو الإساءة، ومن الجدير ذِكر أنّ صِلة الأرحام تكون بحَسب حال كلا الطرفَين، وما يحتاج إليه الطرف الآخر؛ إذ إنّها قد تكون بالمال، أو تقديم الخدمة، والمساعدة، أو الزيارة، أو رَدّ السلام، أو تقديم النصيحة، أو المسامحة، والصفح عن الإساءة، أو بشاشة الوجه، وما إلى ذلك، بحسب قدرة الواصل، وحاجة الموصول، ومصلحة كلٍّ منهما.[١٠][١١] حُكم صلة الرحم لا يُوجَد أيّ خِلاف في وجوب صِلة الرحم على المسلم؛ وذلك لورود عددٍ من الأدلّة الواردة في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، كما نُقِل الإجماع على ذلك، ومن الأدلّة في ذلك:[١٢] قول الله -سبحانه وتعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ*أُولَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)،[١٣] وقال: (وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[١٤] وقال أيضاً: (وَالَّذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللَّـهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأَرضِ أُولـئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ)،[١٥] أمّا الأدلّة الواردة في السنّة النبويّة، فمنها قول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)،[١٦] وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فمَن وصَلَها وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَها قَطَعْتُهُ)،[١٧] وتجدر الإشارة إلى أنّ لصلة الرحم مراتب، أقلُّها ترك المسلم هجرَ أخيه المسلم.[١٨] فضل صلة الرحم لصلة الرحم فضائل جمّةٌ تعود على صاحبها بالنفع في الدنيا والآخرة، ويُذكَر من تلك الفضائل أنّ صِلة الرحم: سبب من أسباب دخول الجنة؛ والدليل في ذلك ما رواه الإمام البخاريّ في صحيحه عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّه قال: (أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، فَقالَ القَوْمُ: ما له ما له؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَبٌ ما له فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤْتي الزَّكَاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، ذَرْهَا قالَ: كَأنَّهُ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ).[١٩][٢٠] علامةٌ من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد جمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بين الإيمان بالله -تعالى- والإيمان باليوم الآخر وبين صلة الرحم؛ حيث إنّ المؤمن الحقّ لا يقطع رحمه ويكون حريصاً على صلته، قال رسول الله: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).[٢١][٢٢][٢٣] سبب من أسباب الزيادة في العمر والبركة في الرزق، قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)،[٢٤] سبب من أسباب نَيل صلة الله -تعالى-، فقد قال رسول الله: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ حتَّى إذا فَرَغَ منهمْ قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ، أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فَذاكِ لَكِ)،[٢٥] صورة من صور طاعة الله -تعالى-؛ فقد أمر بصلة الرحم، كما أنّها من المحاسن التي ورد الأمر بها في الدين، واتّفقت عليها الشرائع جميعها، ممّا يدلّ على عظيم مكانة صِلة الرحم ومنزلتها في ترابط الأفراد، وتراحمهم، وتآلفهم.[٢٢] علامة من العلامات التي تدلّ على اجتماع فضائل عديدةٍ في نفس الواصل، من الكرم، والوفاء، وغيرهما.[٢٢] سببٌ من أسباب انتشار المحبة، والألفة، والمودة، والتراحم بين الأقارب، ممّا يُؤدّي إلى نقاء القلوب تجاه بعضها البعض.[٢٢] سبب من أسباب عُلوّ مكانة الواصل مع مَن يحيطون به من أهله، وغيرهم.[٢٢] كيفيّة صلة الرحم تختلف الطرق التي تتحقّق بها صلة الرحم؛ فتكون بالمال، وتقديم المساعدة، والنُّصرة، وطلاقة الوجه، وإرشادهم، وتقديم النصح لهم، مع الحرص على الدعاء لهم بالهداية، ويشمل الدعاء كلّ مَن له حقٌّ بالصلة، بالإضافة إلى عيادة المريض من الرحم، وإجابة الداعي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن الجدير بالذكر أنّ صلة الرحم تستند إلى العُرف؛ فما اعتاد عليه الناس على أنّه من صِلة الرحم فهو صِلةٌ، وما اعتادوا على أنّه قطيعةٌ فهو كذلك،[٢٦][٢٧] ومن الأمور التي تتحقّق بها صِلة الرحم أيضاً:[٢٨] أجر صلة الرحم، وفضلها الحقيقيّ يكون لمَن وصل من قاطعه، وقد بيّن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ذلك في قوله: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها)؛[٢٩] إذ إنّه وصل رَحِمه؛ طمعاً في نَيل رضى الله -سبحانه-، لا لنَيل أيّ اعتبارٍ ومكانةٍ في النفوس. التصدُّق على الأرحام؛ فقد حَثّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على ذلك بقوله: (إنَّ الصَّدقةَ على المسْكينِ صدقةٌ وعلى ذي الرَّحمِ اثنتانِ صدَقةٌ وصِلةٌ)،[٣٠] مع الحرص على إخلاص النيّة لله -سبحانه-، والخصوصية، والسريّة في أداء الصدقة. حَثّ الأرحام على طاعة الله -تعالى-، وعبادته بالحكمة، والموعظة الحَسَنة، وبذلك ينال الواصل أجر الدلالة على الخير، والبِرّ. الإصلاح بين الأرحام في حال وقوع النِّزاع، والشِّقاق بينهم، وبَثّ الطمأنينة، والسكينة بينهم، مع الحرص على أداء الحقوق للأطراف جميعها، وتحقيق المصلحة لها، قال -تعالى-: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).[٣١] توثيق العلاقات والروابط بين الأرحام، وذلك من خلال العديد من الطُّرق، كالزيارة، والسؤال، وتقديم الدَّعم الماليّ، والمعنويّ، مع التواضع، والمودّة، والمَحبّة في ذلك. الأرحام الواجب صِلتهم تختلف صلة الرحم بحسب درجة القرابة؛ فكلّما ازدادت القرابة، تأكّدت الصلة، وزادت شدّتها؛ والأرحام هم جميع الأقارب من جهة الأب، والأم، وإن بَعُدوا، كما بيّن ذلك ابن حجر الهيثميّ -رحمه الله-، وأضاف إلى ذلك استحباب صِلة الجيران، والأصدقاء، والصالحين، وإكرامهم، وبِرّهم، والإحسان إليهم. والضابط في الصِّلة اختلاف أوضاعهم، وأوقات فراغهم، بحيث تكون على الصورة التي يرضونها، مع تجنُّب المحذورات من اختلاطٍ، أو خُلوةٍ، أو نظرٍ مُحرَّم، أو التدخُّل فيما يخصّ الآخرين،[٣٢] كما أنّ على الزوجين الإحسان إلى أقرباء الطرف الآخر؛ احتراماً للعشرة فيما بين الزوجَين، وتأكيداً على المَحبّة،
الفوائد الدينية لصلة الرحم جعل الله تعالى لصلة الأرحام فوائد وآثاراً كثيرةً تعود على المسلم في دينه ودنياه بالخير، وهي كالآتي:[١] رتّب الله تعالى كثيراً من الآثار الدينية على صلة الأرحام، وهي على النحو الآتي: غفران الذنوب والمعاصي صلة الرحم سبب لمغفرة الذنوب وتهوين الحساب على المسلم، فقد ورد في الحديث: (أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها).[٢] تحصيل البركة صلة الرحم تقترن البركة في عمر الإنسان، وتكون البركة بتوفيق المسلم لعمل الخير في الحياة الدنيا، فتكون حياته مليئة بالإنجازات على الرغم من قصر عمره، ويبقى أثر صلة الأرحام بعد الموت، ويكون بالذكر الطيب، والذرية الصالحة التي تدعوا لواصل رحمه بعد موته، والصدقة الجارية، والعلم النافع، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).[٣] الوقاية من ميتة السوء صلة الرحم تقي الإنسان من ميتة السوء، وتحميه من المكروه، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن سرَّه أنْ يُمَدَّ له في عُمُرِه، ويُوَسَّعَ له في رِزقِه، ويُدفَعَ عنه مِيتةُ السُّوءِ، فلْيَتَّقِ اللهَ ولْيَصِلْ رَحِمَه).[٤] الفوز برضوان الله تعالى صلة الرحم سبب لرضا الله عن العيد ولدخول الجنة يوم القيامة، فعن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن أعرابياً عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أحد أسفاره، فسأله عن عملٍ يُقربه من الجنة، ويُباعده عن النار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعبدُ اللهَ ولا تشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتَصِلُ الرَّحمَ).[٥][٦] دليل على الإيمان تعتبر صلة الرحم من أهم الدلائل على إيمان الإنسان بالله تعالى واليوم الآخر، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).[٧][٨] جلب صلة الله ومعونته صلة الرحم من الأمور التي تترتّب عليها صلة الله ومعونته لعبده المسلم، فقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حتَّى إذا فَرَغَ مِن خَلْقِهِ، قالتِ الرَّحِمُ: هذا مَقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ، أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى يا رَبِّ، قالَ: فَهو لَكِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَهلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ}).[٩] دليل طاعة الله تُعد صلة الرحم من أنواع الطاعات التي أمر الله -تعالى- بها، وقد أثنى الله تعالى في كتابه العزيز على الواصلين لأرحامهم، قال الله تعالى: (وَالَّذينَ يَصِلونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافونَ سوءَ الحِسابِ)،[١٠] ثم قال -تعالى- على ذلك: (أُولـئِكَ لَهُم عُقبَى الدّارِ * جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها).[١١] الفوائد المجتمعية لصلة الرحم لصلة الرحم العديد من الفوائد التي تعود على المجتمع، وعلى الفرد في حياته الدنيوية، ومن هذه الفوائد: سببٌ لرفعة المتواصلين وعزّتهم؛ فبتواصلهم يرتفع شأنهم بين الناس، ويعلو قدرهم.[٨] الزيادة في مال الإنسان، واتساع رزقه، وكثرة الخير لديه. ظهور أثر البركة على عمل الإنسان وسعيه، وحصول نتائجها في ماله. النهوض بالأسرة المسلمة، وتمكينها من التصدي للأمراض الاجتماعية والسلوكية التي تنتشر في المجتمع، والوقاية منها. تكاتف الناس وإعانتهم لبعضهم البعض، والسعي في نصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم. كثرة الخيرات في أرجاء المجتمع المسلم، وانتشار روح المحبة والألفة بين الناس. القيام بحقوق الأرحام أولى الإسلام صلة الأرحام أهميةً عظيمةً، وقدّمها على كثيرٍ من الأعمال الصالحة، ومما يدل على ذلك ذكرها مقرونةً في القرآن مع الوصيّة بالتقوى، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ).،[١٢] فقد أمر الله -سبحانه وتعالى- عباده بصلة الأرحام بعد أمره لهم بتقواه، ليُبيّن سبحانه أن صلة الرحم إن فعلها الإنسان ابتغاء وجه ربه الكريم وطلباً للأجر في الآخرة فهي من علامات تحقّق التقوى في قلب العبد المسلم. وتُعدُّ صلة الرحم بُرهاناً دالّاً على صدق الإيمان؛ فالواصلون لأرحامهم من أهل الإيمان بالله تعالى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).[١٣] والنبي- صلى الله عليه وسلم- هو أوصل الناس لرحمه، وأتقاهم لربه.[١٤] وقد دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- قومه في بداية بعثته في مكة المكرمة إلى صلة أرحامهم، وجعلها من واجبات الإيمان وعلاماته، وحثَّ النبي الكريم أمّته على صلة الأرحام، ونهاهم عن قطيعتها، مبيناً سرعة ظهور آثار الصلة أو القطيعة في حياة الإنسان، فذلك مما يُجازى به الإنسان في دنياه. وصلة الأرحام من أحب الأعمال إلى الله تعالى،[١٤] وللرحم حقوقٌ واجبة لا بد للمسلم من أدائها، وبيان هذه الحقوق على الوجه الآتي:[١٥] الإنفاق عليهم، وإعانتهم على حوائجهم، ودفع الضرر الواقع عليهم، والقيام بخدمتهم. بشاشة الوجه وطلاقته عند رؤيتهم. تخصيص الدعاء لهم بالخير. نصحهم وإرشادهم للخيرات في أمور دينهم ودنياهم، وذلك بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وطلب الهداية لهم من الله تعالى. مؤازرتهم في أفراحهم وأحزانهم، وذلك بعيادة المريض منهم، وتعزيتهم عند وقوع مصيبة أو موت أحدهم، وتلبية دعوتهم، ومشاركتهم في أفراحهم ومناسباتهم. مساعدتهم في كافة شؤونهم، وتفريج كرباتهم ومصائبهم. زيارتهم وحسن مخاطبتهم، وتحمّل الأذى والجفاء الصادر منهم.[١٦] تقديم الهدايا والهبات والأعطيات لهم.[١٧] تخصيص الأيتام منهم بالعناية والرعاية.[١٧] تشميت أحدهم إذا عطس، وإبرار قسمه إذا أقسم.[١٦] حكم صلة الرحم اتفق الفقهاء على أن حكم صلة الرحم هو الوجوب، وأن قطيعة الرحم معصيةٌ كبيرةٌ لله تعالى، وتأتي صلة الرحم على رتبٍ متفاوتةٍ بعضها أعلى من بعض، وأدنى رتبةٍ في الصلة هي ترك الإنسان قطيعة أهله وإعراضه عنهم، ويكون ذلك بالتحدّث إليهم ولو بإلقاء السلام فقط، ولكن اختلف الفقهاء في حد الرحم التي يجب صلتها، وبيان اختلافهم على النحو الآتي:[١٨] ذهب بعض الفقهاء إلى أن الرحم التي يجب على المسلم وصلها هي كل رحمٍ محرّم، بحيث يحرم على الذكر منهم أن يتزوج الأنثى، وعلى هذا الوصف لا يدخل أولاد الأعمام، ولا أولاد الأخوال لكونهم غير محارم. يرى بعض الفقهاء أن الرحم عام، فيدخل فيه كل ذوي الأرحام من الميراث، ويستوي في ذلك المحرّم وغيره، وقد رجَّح النووي- رحمه الله- هذا القول. وبيَّن الله جل جلاله في كتابه الكريم وجوب صلة الرحم، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)،[١٩] فقد أوصى الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة بالإحسان والصلة إلى أهل القُربى من الرجال والنساء على حدٍّ سواء.[٢٠]
إنّ كلمة الإحسان مُشتقةٌ في اللغة العربية من أحسن، أي قام بفعلٍ حَسن، أما اصطلاحاً فيُعرّف الإحسان على أنّه فعل الخير، من باب الرغبة الشديدة فيه، والاقتناع بفضل القيام به، بالإضافة إلى دوام العمل به دون انقطاعٍ أو توقف، كما يُعرِف البعض الإحسان على أنّه كل ما قرب العبد إلى ربه من قولٍ أو فعلٍ، يقول تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[ البقرة: 195]، ويتصف المُحسن دائماً بالمبالغة في فعل الخير، فيُجهد نفسه من أجل مساعدة الآخرين، وخلق مزيدٍ من فرص الأمل لديهم، وتتعدد مظاهر الإحسان حولنا، وفي هذا المقال سوف نتحدث عن مظاهر الإحسان لذوي القربى. مظاهر الإحسان لذوي القربى التحدث إليهم بأدب فعلى الشخص اختيار أفضل الكلمات، وأكثرها أدباً وحياءً، عند التحدث مع ذوي القربى، وما إليه من خفض الصوت عند التحدث إلى كبار السن منهم، والتبسم عند مقابلتهم، والترحيب بهم أشد ترحاب عند زيارة المنزل، ناهيك عن ذكرهم بالخير بالحديث أمام الآخرين، وعدم السماح بالنيل من سمعتهم أو تشويه ذكرهم. تذكيرهم بالمعروف ونهيهم عن المُنكر فذلك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن ذلك أنّه بذل جهداً كبيراً في دعوة عمومته من بني قريش إلى الإسلام، ومنهم عمه أبو طالب الذي توفي على دين الكفر، رغم محبته الشديدة للنبي، ودفاعه الدائم عنه، يقول الله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]. الدعاء لهم بالخير فإنّ كان بينهم مريضٌ مثلاً، فمن باب الإحسان الدعاء له بالشفاء وتخفيف آلامه، بالإضافة إلى زيارته بين الحين والآخر، وتقديم المساعدة له، من أجل تلقي أفضل الخدمات الصحية، إنّ كان بالمقدور ذلك، كما من طيب الأفعال أنّ يُحاول المسلم مساعدة المريض من ذوي القربى على تجاوز المرض من الناحية النفسية، وما إلى ذلك من مساعدة الشخص على القيام بما يُحب حتّى أثناء مرضه، كحبه لقراءة الكتب، فيُحضر له أحد أقاربه كتاباً يجد فيه المتعة والفائدة، ويُشغل نفسه بذلك عن التفكير بالمرض والإحساس به. مظاهر أخرى تقديم المساعدة المالية للأقارب الفقراء: كتقديم المساعدة المالية لطالب جامعي، أو توفير مبلغٍ شهريٍ للإنفاق على العائلة، أو شراء حاجيات العيد، أو حاجيات الموسم الدراسي. السؤال عن ذوي القربى وزيارتهم: وإنّ لم يكن بالمقدور زيارتهم لبعد المسافات فيمكن للشخص بإجراء مكالمةٍ هاتفيةٍ، وتفقد ذوي القربى، ومعرفة أحوالهم. الوقوف إلى جانبهم في المحن والشدائد: فنوائب الدهر كثيرة وأبرزها: الموت، أو المرض الشديد، وربما الفقر على حين فجأة، أو مواجهة مشاكل اجتماعية كالطلاق، وقضايا الحضانة، أو التعرض للسرقة. مُساعدة المُقتدرين على العمل من ذوي القُربى: فكثيراً ما يشتكي بعض الأقارب من عدم عثورهم على فرصةٍ وظيفيةٍ مُناسبة، ويمكن للشخص الإحسان إلى هؤلاء بمساعدتهم على الالتحاق بوظيفةٍ مُجدية، أو نُصحهم حول كيفية النجاح في إيجاد عمل.
مظاهر قطيعة الرحم هناك العديد من مظاهر قطيعة الرحم، ومن الأمثلة عليها ما يأتي:[١] الإهمال وتجاهل الأقارب والأرحام من السؤال أو الزيارة، وعدم دفع الضرر والأذى عنهم، أو العطف عليهم والرفق بهم، أو مساعدتهم بالمال والصدقة عند الحاجة. الإساءة للأقارب بالقول أو الفعل، وتقديم الغريب عليهم، وعدم مشاركتهم بأفراحهم وأحزانهم. المعاملة بالمثل وعدم وصل الأقارب والأرحام إلا إذا وصلوا الشخص، فقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من المداومة على القطيعة، بل حثّ على وصلها حتى في حال قطع الرحم لوصل الشخص، جاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها).[٢] عدم تقديم الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقارب ذوي الرحم، والتغافل عن دعوتهم، وهذا الفعل يُنافي منهج الرسول -عليه السلام- في الدعوة، حيث قال الله -تعالى-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).[٣] التقليل من شأن وأهمية العالِم أو المؤثِّر في العائلة، وعدم الاكتراث له، وإنكار فضله وأثره الطيب عند تقديمه للنُّصح والإرشاد لأقاربه. إثارة الفتن، وبثّ روح البغضاء والمشاحنة بين الأقارب بهدف التفريق ونشر الكراهية بينهم. ترك الإحسان إليهم.[٤] أسباب قطيعة الرحم تتعدّد أسباب قطيعة الرحم، وفيما يأتي بيانٌ لبعض هذه الأسباب:[٥][٦] الجهل بما يترتّب على العبد من الذنوب والآثام بسبب قطع الرحم، وما يترتب من الأجر والثواب على صلة الرحم وتقوية العلاقات بين الأقارب. قِلّة الوازع الديني عند الناس، والانشغال بالدُّنيا، فيغدوا البعض غير مكترثٌ برَحِمِه، ويغفل عن أقل الحقوق والواجبات التي عليه الانتباه لها وتطبيقها. العُجب والكِبر والتّعالي الذي يصيب الإنسان في حال ثرائه أو نيله مكانةً رفيعةً بين الناس، مما يجعله لا يُكلّف نفسه التواضع لغيره من الأرحام إن كانوا أقلّ منه منزلة. بُعد وطول المدّة في زيارة الأرحام، والتسويف والتأجيل المُستمر لذلك، مما يؤدّي إلى الجَفوة والتنافر بينهم، ويصل ذلك إلى العتاب وكثرة اللّوم، ثمّ الخصام والقطيعة. التكلّف والتبذير المُبالغ فيه عند زيارة الأقارب، أو البخل والشحّ المادي والمعنوي معهم؛ فالمادي يكون بقلة إكرامهم، وعدم دعوتهم أو الإنفاق على من يحتاج منهم، والمعنوي بقلة الاهتمام والترحيب بهم، وعدم مشاركة اللحظات السعيدة معهم، وعدم المبادرة بتوجيبهم واحترامهم. وجود الإشكالات بين الأقارب؛ كالمشاحنات، والطلاق، وكثرة القيل والقال، والحسد والبغضاء، والمزاح بالاستهزاء، والأمور المتعلّقة بالميراث، وغير ذلك. سُبُل عدم قطع الرحم يجب أن يحرص العبد على اجتناب قطيعة الرحم، والابتعاد عن كل ما يؤدّي إليها، والمداومة على الصلة والتودّد للأرحام امتثالاً لأمر الله -تعالى- وتأسّياً بالرسول -عليه الصلاة والسلام-،[٧] وهناك العديد من السُّبُل التي تُعين على دوام الصّلة وتجنُّب القطيعة، وبيان بعضها فيما يأتي:[٨][٩] ابتغاء الأجر والثواب العظيم من الله -تعالى- في الدنيا والآخرة، وسؤاله التوفيق على صلة الرحم، والابتعاد عن كلّ ما يؤدّي للنّفور أو العداوة في العلاقة بين الأقارب، والمبادرة بعمل ما يجلب المحبة والمودّة بينهم. مُقابلة الإساءة بالإحسان؛ فقد ثبت في السيرة النّبوية أنّ رجلاً كان يصل رحمه رغم تعرّضه للأذى منهم، فأثنى عليه النبي -عليه السلام- وبشّره بالثواب من الله -تعالى-. قبول الأعذار والصّفح عند الإساءة، فهي من أخلاق الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام-، ويُضرب المثل في ذلك بسيّدنا يوسف -عليه السلام- رغم ما فعله إخوته به؛ إلا أنه عفى عنهم وسامحهم ليُبقي حبل الودّ قائماً بينهم. الجود بالنفس والمال على الأرحام دون انتظار المُقابل منهم، واجتناب المِنّة عليهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به. التواضع وحُسن الخلق معهم، والصبر والترفّع عن أخطائهم وزلّاتهم، وإحسان الظنّ بهم، وعدم الإكثار من لَوْمهم ومُعاتبتهم. الحرص على تجميع الأقارب فيما بينهم؛ كدعوتهم في المناسبات والولائم، والتواصل معهم على الهاتف، والإكثار من الاجتماعات التي تفتح المجال للتّعبير عن أنفسهم وآرائهم. تعويد الأطفال وتربيتهم على ضرورة وأهمّية صلة الرحم؛ ليقتدوا بذلك ويطبّقوه عندما يكبروا. حل الماشاكل العائلية بالمشورة واللطف، خاصة ما يتعلق بقضايا الميراث. إثم قطع الأرحام قطع الرحم من الأمور التي شدّد عليها الإسلام وحذّر من الوقوع فيها؛ لِما لها من الأثر السلبيّ في حياة الناس والمجتمع، وهي من الذنوب العظيمة التي يُحاسب فاعلها عليها في الدنيا قبل الآخرة، إذ جاء عن أبي بكرة نفيع -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن ذنبٍ أحرى أنْ يُعجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ في الدُّنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرةِ مِن قطيعةِ الرَّحِمِ والبَغيِ)،[١٠][١١] وقد أنذر الله -تعالى- وتوعّد قاطع رحمه بتحريم دخول الجنّة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ. قالَ ابنُ أَبِي عُمَرَ: قالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ)،[١٢][١٣] فهذا الفعل من كبائر الذنوب، وإثمه كبيرٌ عند الله -تعالى-، وقد ذمّه -سبحانه- في كتابه، فقال: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)،[١٤][١٥] ومن عِظم الرحم عند الله -تعالى- أنها متمسّكةٌ ومتعلّقةٌ بعرشه العظيم، فمن يقطع روابط القرابة بينه وبين أرحامه يقطعه الله -تعالى-، وقد ثبت ذلك عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ).[١٦][١٧]
النسب هو رابطة سامية وصلة عظيمة على جانب كبير من الخطورة، لذا لم يدعها الشارع الكريم نهبا للعواطف والأهواء تهبها لمن تشاء وتمنعها ممن تشاء، بل تولاها بتشريعه، وأعطاها المزيد من عنايته، وأحاطها بسياج منيع يحميها من الفساد والاضطراب، فأرسى قواعدها على أسس سليمة. فانه تعالى، وقد قضت حكمته السامية وسنته في خلقه أن يوجد الطفل لا حول له ولا قوة غير مستقل بنفسه، وغير قادر على القيام بشئونه، كان من عظيم رحمته أن يودع في الآباء حب الأبناء، فيظلوا مدفوعين بعامل خفي على رعاية أبنائهم، يحدوهم إلى ذلك وازع الحنو الذي لا ينازعهم فيه أحد.(1)
ولقد حرص الإسلام حرصا كبيرا على سلامة الأنساب ووضوحها، وما ذلك إلا لحفظ كرامة الإنسان، وبناء اسر وأجيال ومجتمعات مسلمة تنعم بالوحدة والمودة والسعادة والاستقرار.
يتجلى ذلك في مكافحة الإسلام للزنا الذي هو أحد الأسباب المهمة في اختلاط الأنساب، قال تعالى ]وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً[[2]، وأوجد عقوبة الجلد لمن تثبت عليه جريمة الزنى إن كان عزبا لقوله تعالى ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ[[3]، وقد ورد في السنة الشريفة التشديد على عقوبة الزنى، بحيث جعلت عقوبة الزاني المحصن هي الرجم حتى الموت، من ذلك قوله r: “البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَة وَنَفْيُ سَنَة، وَالثَيِّبُ بالثيب جَلْدُ مائة والرجم” .(2)[4]
ومن مظاهر عناية الإسلام بالنسب أيضا تحريمه التبني[5]لقوله تعالى ]ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[[6]. والتبني في الإسلام لا يعطي الطفل المتبنى أي حق من الحقوق الشرعية المترتبة على النسب الشرعي، وأولى الحقوق التي يجردها الإسلام منه هو حق النسب[7]فلا يثبت النسب لمجرد التبني. والتبني المنهي عنه هو أن يُدمج الطفل في العائلة التي تبنته بحيث يصبح شخصا من العائلة لا فرق بينه وبين أي شخص آخر من أعضاء الأسرة، فله الحق في الاسم والميراث والاختلاط، وتنطبق عليه قواعد المصاهرة، وغير ذلك، وكل هذه الأمور محظورة في الإسلام على أي شخص غير شرعي في الأسرة[8].
ومن مظاهر حفظ الإسلام للنسب أن الفقهاء والأصوليين قد اعتبروا حفظ النسل أو النسب من مقاصد الإسلام الكلية الخمسة التي لا تستقيم الحياة بدونها وهي: حفظ الدين والنفس والنسل (أو النسب أو العرض) والمال والعقل[9].
وقد امرنا الرسول r بالاعتناء بالأنساب والاهتمام بها وان لا نخلط في الأنساب شيئا يسبب لها التشويه والتعكير، وأمْرُ الرسول r هذا جاء على سبيل الفرض، فمن أقواله r : “أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين”[10]واللفظ لأبي داؤود والدليل على أن هذا الأمر يفيد الفرض هو الإنذار الشديد بعدم دخول الجنة، مما يعني ان هذا التصرف كبيرة من الكبائر.
ومما يؤكد أهمية حفظ الأنساب ورعايتها في الإسلام أن الشارع ربط بالنسب حرمة المصاهرة فحيثما ثبت النسب، كانت هناك أحكام خاصة من إباحة الزواج وصلة الرحم وبر الوالدين والأقارب وغيرها.
ومنع الشرع أيضا الأبناء من انتسابهم إلى غير آبائهم قال تعالى ]ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[[11]، فقال رسول r: “من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام”[12]بل ان بعض الروايات جعلت الانتساب إلى غير الأب الشرعي كفراً بمعنى انه من عمل الجاهلية أو من باب كفر النعمة.
ولثبوت النسب أهمية كبرى تعود على الولد وعلى والديه وأسرته بصفة عامة فبالنسبة للولد: يدفع ثبوت النسب عنه التعرض للعار والضياع.
وبالنسبة للام: يحميها ثبوت نسب ولدها من الفضيحة والرمي بالسوء.
وبالنسبة للأب: يحفظ ثبوت النسب ولده أن يضيع أو ان ينسب إلى غيره.
وبالنسبة للأسرة: يؤدي حفظ النسب إلى صيانتها من كل دنس وريبة، والى بناء العلاقات فيها على أساس متين.
ولأجل هذه المعاني حرصت الشريعة الإسلامية على حفظ الأنساب من أن تتعرض للكذب والضياع والزيف، ولم تترك أمر إثبات النسب أو نفيه للمزاج الشخصي غير المستند إلى الحقيقة والواقع[13].
وحرصا على عدم ضياع الأولاد عني فقهاء المسلمين بهذا الحق عناية كبيرة، وتناولوا أمره من كل جوانبه، وما ذلك إلا رغبة منهم الى الحفاظ على الأولاد، وعدم ضياع أنسابهم التي تفضي بهم إلى التشرد الاجتماعي والإفساد في الأرض[14]
كان للعرب في قديم الزمان اهتماماً بالغاً في علم الأنساب، حيث كانوا يحرصون على حفظ الأنساب وتعليمها من جيل إلى جيل، وبرز بعض العلماء المختصين في هذا العلم، وكانوا ينتهجون طرق عديدة من ضمنها سرد الأنساب في مصنفات ومؤلفات ومخطوطات، وكذلك عن طريق الحفظ والمشافهة، ومن المعلوم أن إحدى الصفات المشهورة عند العرب قديماً هي العنصرية والتعصب القبلي، وربما كان للاهتمام بالأنساب دوراً في ترسيخ هذه الصفات ومع ذلك فإن الفائدة المحصلة من معرفة الأنساب لا يمكن نكرانها فقد كانت وسيلة أساسية للتواصل والتعارف بين الناس قديماً.
وامتد الاهتمام بعلم الأنساب حتى عصرنا الحاضر لأسباب عديدة من ضمنها أسباب غريزية حيث يميل الإنسان بفطرته إلى معرفة أصوله وأجداده، ومنها أسباب حضارية والتي تنشأ مع ازدياد تقدم الشعوب والحضارات وازدهار العلوم والمعارف وما يتطلبه ذلك من دراسة أحوال السكان وتاريخهم، وعلاقة الأسر والجماعات ببعضها، كما تطور هذا العلم وتفرع منه علم الأنساب الجيني الذي يتضمن عمل فحوصات الحمض النووي إلى جانب الطرق التقليدية لمعرفة النسب بهدف تحديد مستوى ونوع العلاقات بين الأفراد، وتوسعت الفحوصات في هذا المجال بشكل كبير لا سيما مع تنوع الأغراض المرادة منها كتحديد نسب الأم بواسطة فحوصات الحمض النووي في جزء من الميتوكوندريا حيث أن هذا التركيب الخلوي يكون موروثاً من الأم، وبالتالي فإن تشابه شخصين في تركيب الحمض النووي للميتوكوندريا يدل على اشتراكهما في سلف سلالة الأم، وكذلك الفحوصات التي تستهدف تحديد نسب الأب وتتم بواسطة فحوصات كروموسومات Y التي توجد في الذكور فقط وبالتالي فهي توضح معلومات عن سلالة الأب فحسب، وكما هو الحال في الميتوكوندريا فإن تشابه شخصين في فحوصات كروموسومات Y يدل على اشتراكهما في سلف سلالة الأب. إضافة إلى تحديد نسب الأم والأب تستهدف فحوصات أخرى توقع الأصول البيوجغرافية والأعراق والسلالات وعلى الرغم من انتشار هذا النوع الأخير من الفحوصات وترويجه والإعلان له بشكل كبير إلا أن علماء الأنساب الجينية أكدوا على أن النتائج قد لا تكون دقيقة جداً و إنما تقريبية.
وفي ظل التحول الرقمي في العقود الأخيرة أصبحت رحلة البحث عن النسب يسيرة وفي متناول الجميع ولم يعد الاهتمام بالأنساب مقصوراً على الباحثين والمختصين فقط، بل أصبح للأفراد العاديين فضولاً لا ينتهي لمعرفة أجدادهم وأسلافهم وماضيهم، خاصة في المجتمعات التي يكثر فيها التبني والجهل بالنسب بسبب الزيجات غير المشروعة، مما يجعل للتاريخ النسبي انتعاشاً كبيراً في تلك المجتمعات.
أما في مجتمعاتنا الإسلامية فإن ديننا الحنيف يشجع على الاهتمام بالأنساب تعزيزاً لصلة الأرحام، والتكاتف والترابط بين الأقارب، ومن ضمن الأدوات التي تساعد على تحديد الأنساب هي شجرة العائلة وهي رسم بياني يحدد علاقات الدم والمصاهرة بين أفراد الأسرة الواحدة، وقد أصبحت بيانات شجرة العائلة -كما هو شأن الكثير من البيانات-تُمَثَّل بشكل رقمي وعلى مستويات عالية يمكن تتبعها بواسطة الانترنت. حيث ساهمت التكنواوجيا الحديثة في تسهيل عملية رسم شجرة العائلة عن طريق العديد من التطبيقات والمواقع المنتشرة، وإضافة الكثير من الخصائص والمميزات التي تضيف قيمة تشجع على تطبيقها وانتشارها ورواجها بين المستخدمين، مثل إضافة الأفراد المولودين الجدد، ومشاركة أخبار العائلة ومناسباتها كالزواج والولادة والتخرج والحصول على وظيفة، وإضافة وسائل التواصل والصور، ومقر السكن، وتفعيل التنبيهات التي تمكن أفراد الأسرة من متابعة أخبارهم بشكل سريع وميسر ويساهم كل ذلك بشكل عام في تعزيز روابط القربى بين الأسر.
وفي الواقع فإن تتبع الأنساب وإن كان يساعد على تتبع تاريخنا والبيئة التي احتضنتنا إلا أن الأمر الأهم هو توثيق العلاقات مع الأفراد الأحياء من الأسرة، ومبرة الأموات منهم بالصدقات والدعاء، وعدم التفاخر بالأنساب فهذا جل ما أوصى به الباري جل وعلا في كتابه الكريم حين قال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وهذا الموقع هو لصلة الرحم بين السمرات
مدير الموقع/محمد بن سالم بن حمود السمري الحارثي
ص.ب:٧٠ الرمز البريدي:٤١٩ المضيرب ولاية القابل سلطنة عمان
sumrialharthy@gmail.com